خانه » همه » مذهبی » اثبات وجود الله

اثبات وجود الله

اثبات وجود الله

يمكن للعلم أن يقوم بدور العامل المساعد وغير المباشر في تعريف الإنسان بالله، وذلك بعد أن نضمّ إليه العقل (الفلسفة)، وحينها يكون دور العلم مفيداً جداً حيث يُعرّف الإنسانَ الله عبر مخلوقاته.

A12453 - اثبات وجود الله
A12453 - اثبات وجود الله

 

 


يمكن للعلم أن يقوم بدور العامل المساعد وغير المباشر في تعريف الإنسان بالله، وذلك بعد أن نضمّ إليه العقل (الفلسفة)، وحينها يكون دور العلم مفيداً جداً حيث يُعرّف الإنسانَ الله عبر مخلوقاته.
احدی طرق إثبات وجود الله، هو الطريق العلميّ الذي يعتمد التجارب ويقوم بدراسة ظواهر العالم، و أنّه من المستحيل أن يكشف العلم التجريبيّ عن الله بشكل مستقل، لانحصار اكتشافاته بالأمور الخارجيّة المحسوسة والمحدودة. ولكن …
هناك ثلاثة أنحاء لإثبات وجود الله عن طريق المعرفة العلميّة، نذكر لمحةً سريعةً عنها، :

1ـ الاستدلال بالنَظْم:

وذلك بالتعرّف إلى النظام الدقيق الذي يحكم الموجودات، وبالتالي إكتشاف منظّم يتّصف بقدرة عالية من التدبير والحكمة.
ومثاله: عندما يرى الإنسان عباراتٍ بليغةً منظّمةً قد كُتبت على ورقة، فإنّه يعتقد بأنّ هذا لا يمكن أن يحدث صدفةً، ويكتشف أنّ وراء ذلك موجداً عاقلاً مدبّراً قد نضّد حروفها ونظّم كلماتها.

2ـ الاستدلال بالخلق:

إنّ الإنسان يعتقد بأنّ هذا العالم مخلوقٌ وحادثٌ(1الحادث في الاصطلاح: هو الموجود المسبوق بالعدم. ويقابله القديم: هو الموجود غير المسبوق بالعدم)، فلا بدّ من وجود خالقٍ له، فينطلق للبحث عن خالقه، هذا بغضّ النظر عن النَظْم الموجود في هذا العالم.
ومثاله: ربما يجد الإنسان كومةً من تراب قد أُلقيت إلى جنب الطريق، فينظر إليها على أنّها أمرٌ حادثٌ ـ لم يكن من قبل ـ ممّا يكشف عن موجدٍ لها، فنفس حدوث هذا الأمر يكشف عن محدثٍ، مع أنّه لا يرى فيه نظماً.

3ـ الاستدلال بالهداية:

عندما يتأمّل الإنسان في الأشياء من حوله فإنّه يجدها مرتبطةً بمسير حركتها، فهي تسير على وفق هداية خاصّة، فكلّ مخلوق يتحرّك في مسيرٍ خاصٍّ بحيث تبدو حركته صادرةً عن علمٍ، ممّا يكشف عن وجود قوّةٍ معيّنةٍ مخفيّةٍ فيه تهديه.
ومثاله: ما لو تأمّلت في سلوك الجنين بُعيد ولادته، حيث تراه يبحث تلقائيّاً عن ثدي أمّه، ممّا يكشف عن وجود قوّةٍ كامنةٍ فيه تهديه، وهكذا بقية الموجودات وبالتالي يكشف عن ظاهرةِ الهداية، وهذا يختلف عن كلّ من النظم والخلق.
وبعبارةٍ مختصرةٍ: إنّ العلم يعرّفنا بطبيعة وخصائص الموجودات المحسوسة في عالمنا، فعندما يشاهدها الإنسان يتساءل مرّةً: من خلق هذه الأشياء؟!، وأخرى: كيف وُجد هذا النظام الدقيق في عمل أجهزة هذه المخلوقات؟!، وثالثة: من هدى هذه المخلوقات في حركتها ومسيرها نحو غايتها؟!

إشارة القرآن إلى هذه الأنحاء:

أشار القرآن في سورة الأعلى إلى الأنحاء العلميّة الثلاثة في معرفة الله، يقول تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(1)
فقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ…﴾ إشارةٌ إلى برهان الخلق.
وقوله: ﴿فَسَوَّى﴾ وكذلك: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ…﴾ إشارةٌ إلى النظام الدقيق الذي يتجلّى في وجود الأشياء.
وأخيراً قوله: ﴿فَهَدَى﴾ يتضمّن ذكر هداية الأشياء إلى غاياتها.
هكذا نكون قد بيّنا الأنحاء الثلاثة للاستدلال بالطريق العلميّ بشكلٍ مختصرٍ، فلا بدّ أن نشرع في بيان كلّ نحوٍ وبرهانٍ منها بشكل مستقلٍّ ومفصّل.

أوّلاً: برهان الخلق:

ويسمّى بـ (حدوث العالم) بحسب تعبير الفلاسفة القدماء.
وينطلق هذا البرهان من حدوث الأشياء وخلقها لإثبات ضرورة وجود موجدٍ لها، فإنّ ذلك ما يثبته الأصل العقليّ البديهيّ، فهذا الدليل يستدلّ بالمخلوقات على ضرورة وجود خالقٍ لها.
وتكمن أهميّة هذا الدليل في أنّه يرتبط بالثوابت الدينيّة، فإنّ كلّ متديّن لا بدّ أن يعتقد بأنّ الله خالق كلّ شيء، بمعنى أنّه الموجد له.
وقد بنى عليه البعضُ عقائدَ تصوّروا أنّها ضروريّةٌ في باب التوحيد، كتصوّرهم التلازم بين الإيمان بأنّ الله خالق هذا العالم، وبين كون هذا العالم متناهياً زماناً ومحدوداً مكانا.

ثانياً: برهان النظم:

إذا تأمّل الإنسان من حوله فإنّه سيرى أنّ الكيان الماديّ لهذا العالم وأشكال أجزائه قد أُتقن صنعها ونُظّمت بشكلٍ دقيقٍ فألّف بين أجزاء الافراد، وأوجد الانسجام بين الأفراد والتوازن بين الماهيّات بحيث يؤدي إلى الهدف والغاية من وجودها، ممّا يكشف عن أنّ وراءها موجداً عالماً وصانعاً مدركاً مختاراً.
إذاً، عندما نرى هذا النظم نوقن أنّ هذا العالم لم يوجد على نحو الصدفة، وبالتالي توجد علّة أوجدته بنظمه المتقن، فالنظم هو ما كان ناشئاً عن علّة مدركةٍ مختارةٍ وهادفةٍ.
ولكن حتّى يتبيّن أيّ نظمٍ وأيّ علّةٍ قادرةٍ على إيجاد هكذا نظمٍ متقنٍ، ويثبت من خلالها وجود الله تعالى، لا بدّ أن نبيّن أنواع العلّة.

أنواع العلل:

هناك أربعة أنواع من العلل، وبعض هذه العلل لا يكفي وحده لإثبات التوحيد ـ بخلاف ما توهّمه بعض الباحثين – ولذلك نتعرّض إلى هذه الأنواع بإختصار، ثمّ نبيّن ما ينفعنا في بحثنا هذا.
ولتوضيح أنواع العلل نذكر مثالاً، وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد من جهة:
عندما يريد الإنسان أن يكتب رسالةً، فرسالته حتّى تُنجز تحتاج إلى عدّة علل:
1ـ العلّة الماديّة: والمقصود منها المواد التي يلزم توفّرها لكتابة الرسالة: الورق، القلم، الحبر… فهذه أمور ماديّة للكتابة.
2ـ العلّة الصوريّة: وتعني الهيئة والشكل الذي يُطلب أن تكون عليه الكتابة والخط حتى تؤدّي المعنى المقصود من الرسالة (أي الشكل الصحيح الذي يجب أن ترسم الحروف عليه لتكوين الكلمة فالعبارة)، وكلّ جملةٍ لها صورةٌ غير الأخرى، وإذا تغيّر مكان حرفٍ من الرسالة فإنه تتغيّر بالتالي صورتها.
3ـ العلّة الفاعليّة: والمراد منها القوّة والفاعل الذي سيقوم بفعل الكتابة (القوّة الموجِدة).
4ـ العلة الغائيّة: وهي الهدف المقصود من وراء هذه الكتابة والرسالة، ومنها يستكشف أنّ القوة الموجدة والفاعل هادفٌ وبالتالي يتمتّع بإدراكٍ وإرادة وإختيار.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه العلل مترابطة فيما بينها. والعلّة التامّة التي تؤدّي إلى ظهور معلولها لا بدّ أن تكون مشتملة على الأنواع الأربعة ـ مع فقدان المانع – بينما تكون العلّة ناقصة غير مثمرة إذا ما فُقد أحدها.

اعتقاد الإلهيّين والماديّين بالعلّة الفاعليّة:

يتوهّم بعض الباحثين في مسألة التوحيد بأنّ الخلاف بين الماديّين والإلهيّين هو حول وجود العلّة الفاعليّة ـ أي لزوم وجود فاعل وقوّة ما تتولّى إيجاد الحوادث والظواهر في هذا العالم – فيتصوّرون بأنّ الماديّين، خلاف الإلهيّين، ينفون العلل الفاعلية، ويعتقدون بأنّ العالم وُجد من تلقاء نفسه.
وعند النقاش معهم يستدلون بأنّ العلم التجريبيّ يُذعن بحقيقة قيام الأشياء على أساس العلّة والمعلول، وبحقيقة علاقات ضروريّة تحكم كلّ عالم الطبيعة،
كما أنّه ينكر الاستقلال الذاتيّ للأشياء وظهورها على نحو الصدفة، وبناءً عليه لا يمكن للماديّ أن ينكر وجود منظم لهذا الكون، نعم أقصى ما يمكن أن يدّعيه هو وجود النظم دون أن يسمّي المنظّم، فيما الموحّد يسمّي هذا المنظم وهو الله، فالماديّ يتحدّث عن فاعل مجهول، والموحّد عن فاعل معلوم.
إذاً يُفهم من نقاش هؤلاء الباحثين مع الماديّين أنّهم يتوهّمون أنّ النظم المقصود في برهان النظم هو النظم الناشئ عن العلة الفاعليّة.
لكنّ هذا التوهّم باطل، فحتى الماديّين يستنكرون القول بأنّ العالم وُجد صدفةً، ويعترفون بعلّةٍ أوجدت العالم دون أدنى شكّ، بل على العكس هم يعتقدون بوجود سلسلةٍ دقيقةٍ ومنظمةٍ من العلل والمعلولات، ويعتقدون بحتميّة وجود علّةٍ لكلّ حادث، بل إنّ الماديّين أكثر تأكيداً على هذا الإرتباط من غيرهم.
فالخلاف بين الإلهيّين والماديّين ليس في ضرورة وجود العلّة الفاعليّة بما يعني أن يكون كلّ معلول ناشئاً عن علّة، بل لا يوجد عاقل في العالم يدّعي وجود العالم من تلقاء نفسه.
وبرهان النظم لم يقم على أساس النظم الناشئ من العلّة الفاعليّة، لأنّ هذا لا يكفي لإثبات عقيدة الموحّد المؤمن بالله، فإنّ الماديّ يعتقد بأنّ الفاعل المنظّم لهذا الكون هو نفس تلك السلسلة من العلل والمعلولات ـ أي عناصر الطبيعة نفسها ـ بلا حاجة إلى وجود الله أو إلى عالم ما وراء الطبيعة.
لذلك فإنّ هذا البيان يبقى قاصراً، وتبقى فيه حلقةٌ ناقصةٌ وهي إثبات منظمٍ وفاعلٍ هادفٍ، مدركٍ ومريدٍ ومختارٍ، يقف وراء تلك السلسلة الطبيعيّة من العلل والمعلولات.

معنى النظم في استدلال الإلهيّين:

إذاً الخلاف بين الماديّين والإلهيّين هو في ضرورة وجود إرادة واختيار لدى هذا الفاعل، وبه يتمّ الاستدلال على وجود الله في برهان النظم. فالنظم المقصود في هذا الدليل هو النظم الناشئ من وجود العلّة الغائيّة في هذا الكون.
ففي حين ينكر الماديّ أصل وجود العلّة الغائيّة، يعتقد الإلهيّ بأنّه من المحال تفسير النظم الموجود في العالم إذا لم نُدخل أصلَ العلّة الغائيّة.

ولتقريب الفكرة نستعين بمثال كتابة الرسالة المتقدّم:

عندما يجد الإنسان رسالةً تشتمل على مضمونٍ وقضايا واضحةٍ، فهو يعتقد بوجود قوّةٍ وطاقةٍ كتبت هذه الرسالة (العلّة الفاعليّة).
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد بأنّ هذه القوّة لا بدّ أن تكون ذات إدراك وإرادةٍ واختيار، بحيث أحسنت إختيار الأحرف والكلمات، وقامت بعمليّة انتخاب واعٍ لأشكالها من بين كمٍّ هائلٍ من الأحرف والكلمات، لتوصل هذا المضمون الواضح بواسطة الكتابة، وبالتالي فلا يمكن أن يكون كاتب هذه الرسالة أمّيّاً أو طفلاً جاهلاً بالكتابة.
فالنتيجة، لا تكفي العلّة الفاعلة وحدها في مثل هذه الموارد بل تحتاج إلى توفّر إرادةٍ وإختيار لكي يتحقّق الهدف والغاية المرجوّة.

دور العلّة الغائيّة في إثبات وجود الله:

ومن هنا ينطلق الإلهي في برهان النظم، بأنّنا إذا نظرنا في هذا الكون، فإنّنا سنجد كثيراً من الظواهر والمخلوقات المنظّمة الهادفة، بحيث لا يمكن أن نقتنع بوجودها من غير فاعلٍ مريدٍ ومدركٍ ومختارٍ. فكما نستكشف سعة إطّلاع كاتب ما من خلال مقالةٍ نقرؤها له، مع أنّ سعة الإطلاع هي من الأمور التي لا يمكن رؤيتها أو إدراكها بالحواسّ، فإنّنا عندما ندرس عالم خلق الموجودات، ونطّلع على النظام الذي يحكمها، فإنّنا سنؤمن بأنّ قوةً حكيمةً ومدركةً ـ وراء سلسلة العلل الطبيعيّة التي لا تتمتّع بالإختيار والتدبيرـ هي التي تسيّرها بمقتضى إدراكها على وفق إرادتها وإختيارها.

دور العلم في هذا الدليل:

وهنا يأتي دور العلم التجريبيّ حيث يعرّفنا-بتطوّره وتوصّله إلى معارف أعمق وأدقّ- إلى دقّة النظم السائد في موجودات عالم الطبيعة، مما يكشف أكثر وأكثر عن وجود عامل الإدراك والإختيار والإرادة في إيجادها، وهنا يكمن دور العلم كعامل مساعد في إثبات وجود الله ـ كما تقدّم.
والأمثلة على ذلك كثيرة: تبدأ بالتنظيم الهائل لجسم الإنسان(عينيه، أسنانه، معدته…)، إلى التناسب العجيب لدى الحيوانات، إلى غرائب تنسيق المجموعة الشمسيّة وغيرها…
كلّ هذه المظاهر بنظمها الدقيق لا يمكن أن تكون إلا على أساس اختيارٍ واعٍ وحكيمٍ لها.

حساب الإحتمالات:

ويمكن أن يُستدلّ بطريقةٍ رياضيّةٍ حديثةٍ على وجود منظّمٍ حكيمٍ ذي إرادةٍ وشعورٍ لهذا العالم، وذلك عبر ما يُسمّى بحساب الإحتمال.

وتوضيحه عبر مسألتين:

المسألة الأولى: إنّ احتمال وقوع أيّ حادثة يشكّل عدداً كسريّاً، فلو كان في كيسٍ مثلاً ثلاث رصاصاتٍ سوداء. فالوقوع الحتميّ: هو أنّك إذا أدخلت يدك وأخرجت عشوائيّاً رصاصةً واحدةً فإنّ إحتمال أن تكون سوداء هو 1/1 أي واحد، لأنّ جميع الرصاصات سوداء اللون.
الحوادث الممتنعة: إنّ احتمال أن تكون بيضاء هو 0/1 أي صفر، لأنّه لا يوجد أيّ رصاصةٍ بيضاء.
وأمّا إذا أضفنا إلى الكيس 4 رصاصاتٍ حمراء، وصار المجموع 7 رصاصات، فالحوادث المحتملة: إنّ احتمال أن تخرج رصاصةٌ سوداء من المجموع هو: 3/7، واحتمال أن تكون الرصاصة حمراء هو: 4/7.
المسألة الثانية: إنّ وقوع حادثتين على التوالي هو حاصل ضرب عدديهما الإحتماليين، ومثال ذلك:
ما لو وجدنا هذا البيت من الشعر مطبوعاً على ورقة:
أتحسبُ أنّك جرمٌ صغير***وفيك انطوى العالم الأكبر
فهنا لو ادُّعي أنّ الذي طبع هذا البيت شخصٌ أمّيّ لا يعرف إستعمال الآلة الكاتبة سوى أنّه جلس وأخذ يُحرّك أصابعه بشكلٍ عشوائيّ على الطابعة، لكان الجواب على هذا الادّعاء بحساب الاحتمال على النحو التالي:
1ـ إنّ احتمال إختياره أوّلاً للحرف (أ) من بين الأحرف الأبجديّة نسبته 1/28 (= 0.036)، بناءً على ما مرّ في المسألة الأولى.
2ـ وإحتمال أن يختار (أ) وبعده مباشرة (ت) نسبته: 1/28 * 1/28 أي 1/784 (=0.00127)، بناءً على المسألة الثانية، وهذا إحتمال ضعيفٌ جدّاً.
3ـ واحتمال أن يختار (أ) وبعده (ت) وبعده (ح) نسبته: 1/28 * 1/28 * 1/28 أي 1/21952 (0.00004555393)، وهذا احتمال أضعف بكثير.
4ـ أمّا إحتمال أن يختار الترتيب الكامل لكلمة: (أتحسب) فنسبته: 1/28 * 1/28 *1/28 *1/28 * 1/28 أي 1/ 17210368 (0.00000000581)، وهذا إحتمال لا يمكن تصوّره، فكيف إذا استمرّ الحساب لإحتمال أن يكون قد طبع البيت الكامل المؤلّف من 36 حرفاً بشكل عشوائيٍّ؟! فإنّنا سوف نضرب 1/28 بنفسها 36 مرّة، وهذا ينتج عدداً كسريّاً لا يمكن للذهن البشريّ أن يحتفظ به.
إذا كان ذلك في بيتٍ واحدٍ من الشعر، ولا نتعقّل رجلاً أميّاً قد صفّ هذه الأحرف، بل لا بدّ من وجود كاتبٍ عالمٍ وشاعرٍ، فكيف بنظام العالم؟
بل نجد في كلّ جزءٍ من أجزاء العالم النظام المعقّد والدقيق. ألا يشير ذلك إلى وجود منظّمٍ ذي شعورٍ وإرادةٍ وحكمةٍ؟!
ففي كلّ جزءٍ له آيةٌ **تدلّ على أنّه واحد

الصدفة ومبدأ العليّة الغائيّة:

يعترض البعض على العليّة الغائيّة والهدفيّة في طبيعة الأشياء، بما نراه من صدفةٍ تؤدّي إلى بعض الأحداث. فهؤلاء يرفضون أن يكون النظم هو الحاكم في هذا العالم، إذ للصدفة تأثيرٌ في حوادثه وظواهره، ممّا يبطل الاعتقاد بالنظم في طبيعة أشياء هذا العالم، وبالتالي ينفي وجود فاعلٍ كليٍّ ذي حكمةٍ وعلمٍ وإختيارٍ.
في الواقع، نحن نقرّ بوجود الصدفة في هذا العالم، فنحن نشاهد أحياناً سائقاً يتوجّه نحو عمله فإذا به يصدم أحد المارّة الذي ينوي التوجّه إلى منزله، ونشاهد أيضاً نبتة وردٍ صغيرة قد خرجت صدفةً من بين أحجار الجدار، فنحن نؤمن بوقوع هذين الأمرين ولا ننكر ذلك، ولكن السؤال: هل صحيح أنّ مثل هذين الحادثين ـ اللذين يقعان صدفةً ـ ينفي وجود النظام القائم على أساس مبدأ العليّة الغائيّة، وعلى أساس القول بأنّ عالم الطبيعة يتحرّك باتجاه هدفٍ معيّن؟!
لتحقيق هذا الأمر لا بدّ من البحث في دور الصدفة وحقيقتها، وهل أنّ دورها نسبيّ أو مطلق؟

الصدفة أمر نسبيّ:

إنّ الباحث إذا حلّل الصدفة فسيجد أنّ الحوادث التي تقع مصادفة هي عبارة عن أحداث ظهرت بسبب تقاطع مسار علّتين تتحرّك كلّ منهما نحو هدفها مع الغفلة عن مسار حركة العلّة الأخرى، فالسائق تحرّك إلى عمله، وعابر الطريق تحرّك إلى منزله، وكان كلّ واحدٍ منهما غافلاً عن حركة الآخر فوقع الإصطدام، وكذلك النبتة في الجدار، فإنّها قد نمت انطلاقاً من حركتها الطبيعيّة نحو هدفها.
إلى هنا يتبيّن أنّ هذه الأشياء كانت تسير وفق الهدف والنظام المرسوم والمحدّد لها، فما هو دور الصدفة في هذه الأحداث؟
إنّ دور الصدفة في وقوع الأحداث هو دور نسبيّ، وذلك بمعنى أنّها صدفةٌ في نظرة معيّنة، بينما هي نظمٌ في نظرة أخرى، وتوضيح ذلك:
إذا نظرنا إلى تلك الأحداث بنظرة جزئيّة فإنّنا نقول إنّها قد وقعت صدفةً، وأمّا إذا نظرنا إليها بنظرة أكثر شموليّة فسيتّضح أنّها كانت تسير نحو هدفها وغايتها، فمن زاوية النظام الكليّ للعالم، إن حادث الإصطدام هو جزء من الهدف، لكنّ نظرة كلّ من السائق والعابر الجزئيّة لم تكن ترى هذا الهدف، أمّا الناظر من بعيد فإنّه عندما يرى السيّارة والعابر فإنّه سيرى الإصطدام أمراً يسير وفق طبيعة الأشياء وغاياتها. فنحن عندما نتحدّث عن حالة الهدفيّة في عالم الطبيعة فهذا يعني أن تتجسّد الهدفيّة وفق قانون كليّ، فقوانين الهدفيّة كليّة وليست جزئيّة وشخصيّة، ولذلك لا حاجة لأن نبحث في الموارد الجزئيّة والشخصيّة.
وبعبارة أخرى، إنّ الحكم على أمر بأنّه صدفةٌ ناشئٌ عن جهلنا، فعندما نجهل سرّ وقوع أمرٍ ما ننسبه إلى الصدفة، لذلك عندما يحفر إنسانٌ في أرضٍ لا يعلم أن في أعماقها كنزاً نقول بأنّه وجده صدفةً، أمّا لو حفر نفس الأرض من يعلم بوجود هذا الكنز فلا نحكم على ذلك بأنّه صدفة! فالعثور على الكنز لم يقع صدفةً في نظر العالم بوجوده في بطن الأرض، بينما هو صدفةٌ بنظر الجاهل!
و ظواهر وأحداث العالم هذه تقع ضمن مسارٍ وهدفٍ معيّن، فإذا علم من يطوي هذا المسار بحقيقة هدفه، فإنّه لن يرى تحرّكه فيه صدفةً، بينما ننسب هذا التحرك – بسبب محدوديّة علمنا وعدم شموليّة نظرنا – إلى الصدفة.
ففي النتيجة، إنّ ما نراه من أنظمة في عالم الوجود ليس ناشئاً عن الصدفة، فإنّ من يرى العالم على حقيقته خاضعاً لتأثير وتدبير علمٍ كليّ وإرادةٍ كليّةٍ، يراه يسير وفق غايته وهدفه.

تعابير القرآن في إشارته إلى برهان النظم:

تختلف تعابير القرآن إذ يشير إلى برهان النظم، فتارةً يعبّر بإتقان الصنع، كما في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾(2)، فيما يعبّر في آيات أخرى بالتقدير، كما مرّ في الآية من سورة الأعلى: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ وهو صدور الخلق على أساس الحكمة.

خلاصة

ـ يمكن للباحث عن التوحيد أن يعتمد على العلم كعامل مساعد للتوصّل إلى إثبات وجود الله.
ـ هناك ثلاثة أنحاء لمعرفة الله عن طريق العلم:
1ـ برهان النظم
2ـ برهان الخلق
3ـ برهان الهداية
ـ أشار القرآن الكريم إلى الأنحاء الثلاثة من أنحاء الطريق العلميّ، في آيتي سورة العلق.
1ـ برهان النظم: في مقابل الصدفة، فالنظم يعني الإعتماد على العلّة في وجود الأشياء.
ـ للعلة أربعة أقسام: العلّة الماديّة، العلّة الصوريّة، العلّة الفاعليّة، العلّة الغائيّة.
ـ يؤمن كلّ من الموحدين والماديّين بالنظم الناشئ عن العلة الفاعليّة، بأن يكون لكلّ ظاهرةٍ أو حادثةٍ في هذا العالم فاعلٌ وقوّةٌ سبّبته، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجود الله.
ـ ما ينفع في إثبات وجود الله، والذي كان موضع خلاف الماديّين والإلهيّين، هو النظم الناشئ عن العلّة الغائيّة، بأن يكون من وراء نظم العالم فاعلٌ مدركٌ مختارٌ، حيث يكون وراء هذا النظم الدقيق مدبّر حكيمٌ.
ـ إنّ التأمّل في الموجودات يجعلنا نؤمن بأنّه ليس مطلق قوّةٍ أو فاعلٍ يستطيع إيجاد هذه الأشياء، وإنّما هي موجودة بإرادة وإختيار خالق يتّصف بقدرةٍ عاليةٍ من التدبير والحكمة.
ـ يتحدّث البعض عن الصدفة، ويعتبر أنّها تنافي النظم والهدفيّة في طبيعة الأشياء، إلا أنّ الصحيح أنّ ما يوصف بأنّه وقع صدفةً هو نتيجة نظرةٍ جزئيّةٍ للأحداث ونتيجة جهلٍ بشؤون العالم، وأمّا بالنسبة لمن ينظر إلى العالم بنظرة كليّة شموليّة، فإنّه لا يجد للصدفة مكاناً كي تؤثّر في أحداث العالم.
المصادر :
1- الأعلى:1 ـ 3
2- النمل:88

 

 

دیدگاهتان را ثبت کنید

آدرس ایمیل شما منتشر نخواهد شد